كلمة لو تجلب عمل الشيطان

ذات مرة فكرت لو أننا عدنا بالزمن.. هل سنفعل نفس الأشياء التي سنفعلها أم أننا سنفكر بتروّي وتأنّي؟
بالرغم أن هذه الفكرة بحد ذاتها لا تبدو منطقية، فلنفترض لو أنك قررت الذهاب إلى حديقة الحيوانات اليوم وأتى الغد وعاد بك الزمن للأمس مجدداً لتجد نفسك واضعاً من خطط اليوم الذهاب إلى حديقة الحيوانات، إذا كنت عائداً بالزمن ووجدت نفسك ستقرر.. بالطبع لن تذهب إلى حديقة الحيوانات! غالباً ستأتي بخطة أخرى من المفترض أن تفعلها بالغد!
أعلم أن الفكرة جنونية ولكنك تعيش باليوم مهما عاد بك الأمس فلن تذهب إلى حديقة الحيوانات لأنك تملك صوراً في عقلك منذ آخر مرةٍ ذهبت بها والتي يفترض أن تقرر حدوثها الآن أم لا رغم أنها حدثت...
هذا ليس معقولاً! حسناً لا عودة بالوقت ولا خرافاتٍ كهذه ولكن لنستبدلها مصطلحياً بكلمة "لو"..
لو أنني لم أذهب لحديقة الحيوانات لما مللت، لو أنني مكثت بالبيت لحصل لي هكذا، لو أنني نمت لأصبح نومي منظماً.. وتكثر قائمة الـ"لو"..
لكن دوماً ما اتخذت الواقع من حولي كأمثلة..
حصلت أمامي مشكلة ذات مرة وفكرت لو أن كل شخصٍ لم يتصرف بعقلانية كما حصل ولو أن أحدهم لم يقدّر طبيعة الموقف وقرر التهور، ماذا سيحصل؟
عاد لي هذا الخيال ككابوس! ماذا لو أن هذا قرر أن لا يُحادث هذا وهذا قلّ أدبه على هذا وهذا لم يرد أن يستمع من هذا وهذا قرر أن يقطع هذا وينفصل عنه ولا يعود أبداً؟ شعرت بالحزن لمجرد الخيال، لهذا لم أرد أن يعود الوقت أبداً، قدّرت من تصرف بتروي وعقلانية في وقتٍ عصيب على الكل آنذاك.
 أكثر شخصين رأيتهما يجسدان صفة التروّي والأناة هم والديّ (حفظهما الله) ولا أقول هذا على سبيل الفخر بوالديّ فقط، ولكن لديّ الكثير من الأسباب لأفخر بهما! رغم أن الموقف المذكور لم يدُر عنهما ولم يكونا أصلاً فيه ولكنني أُذهل من حكمتهما، أرى إصرار أبي على بلوغ هدفه مهما كلفه ذلك من تضحيات، وأرى أمي كل يومٍ تقدّم الكثير بلا كللٍ أو ملل. كمثال:
أختي الصغيرة ذات السنوات الأربع كثيرة السؤال، ولا تنفك تسأل عن كل شيء بتفصيل ممل ناهيك عن ألفاظها الثقيلة كونها لم تعتد الحديث إلا لسنتين، كانت تأشر على شعر أمي وتسألها ما هذا؟ فتجيب ماما: "شعر" وتأشر على أبي فتسأله ما هذا؟ فيجيب بابا:"شعر"، كنت مستعجلة ومشغولة بشيءٍ ما عندما مررت بجانبهما لأرى هذا الموقف الآسر اللطيف، أبي وأمي ينحنيان بلطف على أختي الصغيرة مبتسمين ويجيبان على أسئلتها التي بلا معنى، أتذكر أن هذا الموقف استمر لدقائق تصل إلى العشرة، كنت أراقب الموقف من بعيد حتى شعرت بالملل وانصرفت، عدت مجدداً لأجدهما عاكفين عليها بحبٍ وترحاب.
أعلم أن هذا يعتبر سخيفاً أمام كل ما فعلاه ولكنني أتذكر جيداً ذاك الموقف وأبتسم كثيراً، كان لطيفاً وتمنيت لو أنني أتذكر ما كانا يفعلانه معي عندما كنت بعمرها.. كانت أمي تحكي لي مواقفاً عني وأنا طفلة وكانت نفسي تبلغ مبلغاً من الدراما حتى تغرورق عيناي بالدموع، أبي وأمي رُزقا بي بعد وقتٍ طويل من الإنتظار والمحاولات التي كادا يظنان أنها باءت بالفشل، ولكن بالرغم من كل هذا لم يتخليا عن بعضهما لسنواتٍ طويلة! فسمياني تيمناً ببقائهما على عهدهما الذي لم ينكثاه "وفاء"! كأنه وفاءً لعهدهما الذي قطعاه لأن يبقيا معاً مهما واجهتهما الصعوبات وظنّا أنها النهاية.. أعلم أن الفكرة بحد ذاتها تبدو مبتذلة ولكنها تعني لي الكثير لأنني أشعر وكأنني أفهم معاناتهما عندما أراهما يتشبثان ببعضهما البعض بحب رغم الصعاب، أحبهما كثيراً وكلما فكرت بمدى حبي لهما أشعر أن أمامي الكثير لأفعله من أجلهما..
جاريت عاطفتي قليلاً لكن دعونا نعود للفكرة التي تستند عليها مواقف أمي وأبي، ماذا لو أنهما قررا أن لا يُكملا المسير معاً واعتقدا حتماً ان هذا هو الفشل؟ حتماً لن تروني أكتب لكم هذه التدوينة بكل صدق.
حسناً، دائماً ما أسمع كلمة:"الإنسان مسيّر ليس مخيّر".. الحقيقة هي: الإنسان مسير ومخير وميسر.
"كل إنسان له مشيئة، وله إرادة، وله عمل، وله صنع، وله اختيار ولهذا كلف، فهو مأمور بطاعة الله ورسوله، وبترك ما نهى عنه الله ورسوله، مأمور بفعل الواجبات، وترك المحرمات، مأمور بأن يعدل مع إخوانه ولا يظلم، فهو مأمور بهذه الأشياء، وله قدرة، وله اختيار، وله إرادة فهو المصلي، وهو الصائم،وهو الزاني، وهو السارق، وهكذا في جميع الأفعال، هو الآكل، وهو الشارب." (1)
الإنسان لم يكن يوماً مجبوراً على شيء! الله خلق الإنسان بحريّةٍ مقيدة هذا ديني ولك يا أيها الإنسان أن تختار الإتباع أم الضلال.
كل هذا يعني أن الإحتجاج بالقدر هو حجّة كاذبةٌ مزيفة، أن يقرر المرء فعل شيء ثم يندم ويحتج بالقدر هذا اسمه كذبٌ على الله.
هذا جوابٌ صعب الفهم ولكن كنت كذلك ذات يوم لذا سأطيل الشرح قليلاً.. الله منذ أن خلق آدم جعل له وأبناؤه البشر طريقين كُتبا قدراً في كتاب كل واحدٍ منهم: طريق الخير وطريق الشر، بعد أن يولد الإنسان ويبدأ بأن يصبح بالغاً عاقلاً راشداً مكلفاً سيقرر ما إذا كان سيسلك طريق الخير أم الشر وعليها ستأتي أقداره التي كتبها الله في طريقه الذي اختاره، هذه من مشيئة الله ورحمته بعبده حتماً ستغير القدر، الدعاء يغير القدر ليس بذاته وإنما برحمة الله بعبده الذي دعاه خوفاً وتذللاً.
(1)     الموقع الرسمي لسماحة الشيخ الإمام ابن باز  (8/94).


تعليقات

المشاركات الشائعة