سلاماً على أرواحكم الطيّبة


لا أعلم لماذا أشعر بالبرود عند كل خبرٍ يقال فيه:"فلان مات"، لا أذكر أنني ذرفت دمعة على أحدٍ مات! لا أعلم ما السبب وما زلت أفتش في أنحاء روحي القاسية عن عيونٍ تجري، هي لا تجري إلا عند السخافات وحتماً تضل تلك الدموع حبيسة صدري لشهور وتخرج عند أتفه شيء يدغدغها.. إلا أن يُقال لها أن عزيزاً رحل، أشعر وكأنها تتخطاه. كنت أحياناً أبرر ذلك على أنني لم أستوعب ما حصل من حجم الصدمة الواقعة. ولكن لا تبرير ولا صدمة! أنا أعي كل ما يحصل وأحزن وما زلت لا أبكي كالبقية وهذا ما يشعرني بالنقص، وبقلة التقدير لمن فقدت، وهذا كله ضربٌ من الجنون! أم أن الجنون هو ما يحصل لي الآن؟ كمناقشة موضوع ذو أهميةٍ ضعيفة عندك ولكنه بتلك الأهمية البالغة بالنسبة لي.
سأودُّ تبرير هذا وإن لم يكن صادقاً لكنه حقيقياً، قالت لي صديقتي ذات مرة أن في عزاء أخيها المتوفى كان الناس يبكون، وكانت هناك امرأةً تقول أن البكاء على الميت كالجمر  يُرمى عليه ويعذّب على بكاء أهله وبدورها كانت صديقتي تمتنع عن البكاء مما أدى بها إلى أن لا تبكي أبداً، وهذا ليس بصحيح رغم أنني ضللت أتحجج بهذا لسنوات مقتنعةً به.
وعندما أصبحت على مشارف النضوج فكرت كثيراً، بينما أراهم يبكون وعروق عيونهم بارزةً حمراء، وتبدو عليهم علامات الحزن والإجهاد النفسي، بتلك التعابير الغاضبة وتارة المنكسرة، فكرت لمَ نبكي؟ رأفةً بالميت أم بأنفسنا التي ستفتقده؟
إنهما حتماً سببين متلاحمين ولا مناص منهما مهما حاول المرء أن يتصنع المنطقية لإثبات انفصالهما.
أنا أحزن ولكن لا أبكي، كأن يُقال لي أن فلاناً مسافر ولن يعود إلا بعد شهور. أو لن يعود.
وأحزن ولا أبكي، كأن يقال لي أن فلاناً ذهب ليعيش حياةً أفضل من التي عاشها وهو بقربي!
حتى وإن تلاحما فالمنطقية موجودة، لا مبرر لنا للبكاء من عدم البكاء. أعلم أن البكاء عادةً بشريةً بحته ولا مجال لإنكارها أو كبتها والتظاهر بعدم وجودها لأنها ستؤدي لإنفجارٍ عاطفيٍّ عظيم، ولكن مجرد التفكير بمنطقية واتزان سيجعل المرء سعيداً لمن رحل، ويحزن على فراقه. ولن يقلل من مقدار حبه عدم البكاء عليه.
بل وأنني أحياناً عندما يموت شخصاً قريباً لي لا تنفك تراودني تلك الأحلام عنه وأنه يحدثني بكل رحابة، ويطمئنني أنه يرانا وبيننا، حتى من ماتوا وأنا صغيرة ولم أستوعب ما يحصل جيداً إلا أنني أستوعبه الآن وبشدة أكثر ممن كانوا بكامل استيعابهم وقتها، كنت أشعر بتلك الأحلام كأنها قطع ألماسٍ ثمينة. أحتفظ بها لنفسي دائماً ولا أشاركها أحداً. يقول بعضهم أن التحدث عن ماهية الحلم تُذهب بركته. غير أنني لا أودّ أن أذكر أحداً بأحزانه.
عندما أكون في مكان اعتدت فيه أن أرى فيه ذاك الشخص أغوص في أعماقي لأجد ما يطمئنني بأنه يرانا من الأعلى، من الجنة وسعيدٌ بما نفعله له ويعلم أننا نتذكره، ندعوا له في كل صلاة ونتمنى لو كان بيننا رغم أنه بيننا.
رحم الله موتانا وموتاكم وموتى المسلمين وغفر لهم وأسكنهم فسيح جناته.
اللهم آمين.



تعليقات

المشاركات الشائعة