شيطانيةٌ بشرية


مخلوقاتٌ حديدية تحوم في السماء كغربانٍ غاضبة، وأخرى تأتي أشد غضباً زاحفة بجبروتها على الأرض، تدهس كل ما يعترض طريقها وترمي بنيرانها الملتهبة على البيوت الصغيرة وبين الأزقة تستقر، أحياناً عندما يحلّ سكون الليل أخرج لأستلقي وأعد النجوم ولكنني في كل مرةٍ كنت أهرب لأحتمي بين أحضان أمي، كنت أرى ناراً تملأ السماء بصفرتها وحرارتها وذاك الصوت المدوي الذي يجعل فيما بين أذنيك ضجيجاً لا ينتهي، ذات مرة رأيت طفلاً يحمله والده راكضاً به ما بين كثح الغبار المتدافع لتندفع معه دماء ذلك الطفل التي أغرقته، لقد مات الطفل.. أما والديه فقد كنا نسمع لهما أنيناً يزداد مع ازدياد الغسق، يخترق أحجار الطوب المصفوفة، وكأنهما يئنان من جرح طفلهما لا جرحهما.
لم أعرف يوماً ما الذي يحصل ولم أنكره حتى. ولدتُ في بيئة كهذه وما زلت أنتظر صاروخاً ليفجره آخر في قلب السماء، لم تكن هناك أخباراً لنتناقلها ولا حتى من البيت الذي يبعد بضعة أمتارٍ عن بيتنا... سوى أن فلاناً استشهد ومات.
ظننت أن هكذا هي الحياة ولم أغضب يوماً، لم أحزن على حياتي ولا على ما يحلّ بي، كنت أسمع والداي يتحدثان دوماً عما يحصل غاضبان أو باكيين، لكنني حقاً لم أهتم، ولم أنتظر تفسيراً يوماً سوى من نفسي التائهة في تلك الدائرة المفرغة، وأمام زناد البندقية أجدها عندما أعود من المدرسة، كانت هناك أياماً ظننت فيها أنني لن أعود وأحياناً لا أذهب لئلا أضع نفسي أمام احتمالاتٍ تنهي حياتي التي بلا معنى. لا أعلم كم قضيت على هذه المعمورة ولا أعلم حتى يومي الذي ولدت به، سوى أنه يومٌ مشؤوم من إحدى أيام أبي وأمي. لم يقررا إنجابي في ظل تلك الظروف القاتلة والمجازر التي تقام كل يوم على الأحياء، حتى أنني أعتقد أن الجنائز لابد وأن تكون لأولئك الأحياء نفسهم! لا للأموات.
 علمت دوماً أن هناك من ينوي القضاء علينا كما كنت أعلم أن تلك النية لم تأتي من عدم، لقد كان هناك ما أغضبه، ولكن ما سرّ كل تلك الجيوش والآلات المسخرة تحت أمره بلا عصيان، منذ أن حييت وهي كذلك، لا بد وأنه خارق القوة لا يعجزه شيء! كنت أعتقد أنه الله وفي كل صلاة كنت أدعوه تضرعاً أن يرفع عنا هذا العذاب، كنت أعرف أننا في الدنيا وأننا سنموت يوماً يتعين به مصيرنا لنكون في الجنة أو النار ولكنني أيضاً اعتقدت اننا في الجحيم الأزلي ذاته، هو نفسه الذي تذهب له بعد مماتك إذا كنت مستحقاً له، واعتقدت كذلك لأنني فكرت ما المانع ألا يكون كذلك؟ لابد وأنني كنت شيئاً قبل أن أكون هنا فأصبحت شيئاً آخر فيما بعد. ربما أنني فقدت الذاكرة والنيران حولي في كل مكان فما المانع حقاً أن أكون متواجداً في الجحيم أو مولوداً به؟ أعتقدت كل هذا بقناعةٍ مني! ولكن ما الذنب الشنيع الذي فعلته لأستحق كل هذا العذاب؟ سوى أنه لم يكن بتلك الشناعة لطالما أنني أدرس وآكل وأرى والديّ كل يوم! أهل النار لا يأكلون إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يشربون إلا ماءً من حميم. أما أنا فآكل ما أسد به جوعي وما يرويني ويُغنيني لعدة أيام.
إحدى المرات وفي طريقي للمدرسة، بين رماد الجثث سمعت أحدهم يلعن رجلاً باسمه، سألته من يكون؟ وقال: "إن كنت لا تعلم من يكون فأنت أبعد ما تكون عن معرفة نفسك"، لقد كان الاسم مألوفاً جداً! سألت أبي وأمي ليكون وطأ الصدمة علي شديد. لم يكن الإله من يعذبنا ويتسبب في شقاء أرواحنا، بل كان أحد مخلوقات الله المهيمنة، من جنس البشر الذي لطالما ظننته ضعيفاً أمام قوةٍ مدمرة كهذه، ولكن كيف لي أن أراقب آخر تطورات البشر وأنا كل ما يشغلني في معظم الليالي الباردة هو القش المسقوف لئلا يسقط على رأسي؟ كيف لي أن أعلم وأنا كلما رأيت شرارةً تضيء في كبد السماء ركضت مختبئاً بين أحضان أمي وتحت ذاك السقف الذي شارف على السقوط؟ كيف لي أن أعرف معنى الحرية وأنا الذي أحبس نفسي لكيلا أخرج وأجد جثثاً لم تخمد نارها بعد؟ كيف لي وكيف لي؟
لم أظن يوماً أن هنالك حرية أو بشراً يتجولون بلا خوف بين الشوارع إلا عندما هاجرنا أنا وأبي بعد وفاة أمي هاربَين وبالكاد استطاع أبي أن يجفف عيناه الغارقتين في دموعه ليرى الطريق، كان الحصار شديداً للحد الذي جعلنا نهرب بلا تخطيطٍ مسبق ولكن في الهَزيع الأخير.
لم أصدق أن هذه هي الحياة وحسب، إننا حتماً في الجنة ولا شيء آخر، وآخر عذابٍ لنا كان رؤية أمي تموت!
عندما رأيت هذه الحياة وتذكرت تلك الحياة ذُهلت وصعقت واندهشت في اللحظة نفسها، استلطفتُ أجواء الحب والهدوء والسقف الثابت الصلب بسرعة ولكن ليس طويلاً، بل ظللت وقتاً طويلاً لأتخلص من كوابيس الصواريخ والدبابات، وظللت طويلاً غير معتادٍ على الطبيعة والمناظر الأخاذة، تلمّست العشب بيدي الناعمتين لأدرك أنه لم يكن محروقاً وخشن الملمس كالذي في الديار، ولكن بعد كل هذا لم أعتد على هذه الحياة، وظننت أنني كنت أسعد بكثير عندما كنت في أرضي وبين الأموات والضحايا، على الأقل لو لم تمُت والدتي لم أذهب لأنعم بحياتي متناسياً أمر أولئك الأطفال الذين عانوا مثلما عانيت ولكن حُتم عليهم أن يموتوا كما ولدوا ولا حيلة لهم في ذلك! سيموتون وسأعيش ويعيش الذي قتلهم لأكون مثله، مُنعماً بحياتي ولا أهتم لأمرهم البتة.
ولكنني اليوم لا أملك عائلة. كلهم ماتوا وآخرهم ابن عم أبي، لقد كانوا يموتون باكراً تلو بعضهم البعض، كنت أصغر فردٍ في عائلة أبي وأمي بأكملهما اللتان لم يتبقى منهما أحداً قط، وأصبحت الآن أعرف الفرق بين الحرية والسجن والسلم والحرب، البغض والحب.
لكنني لم أعرف أن أتعايش مع الحب كما تعايشت مع الألم.


تعليقات

المشاركات الشائعة